الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
ومذهب أكثر المفسرين أن هذه الآية منسوخة، ولهم في ناسخها قولان.أحدهما: أنه قوله: {وذكِّر فإن الذِّكرى تنفع المؤمنين}.والثاني: آية السيف.وفي قوله: {وذكِّر} قولان.أحدهما: عِظْ، قاله مقاتل.والثاني: ذكِّرهم بأيّام الله وعذابه ورحمته، قاله الزجاج.قوله تعالى: {وما خلقْتُ الجنَّ والإنس إلاّ لِيعْبُدونِ} أثبت الياء في {يعْبُدون} و{يُطْعِمون} و{لا يستعجِلون} في الحالين يعقوب.واختلفوا في هذه الآية على أربعة أقوال.أحدها: إلاّ لآمُرهم أن يعبدوني، قاله عليُّ بن أبي طالب، واختاره الزجاج.والثاني: إلا لِيُقِرُّوا بالعُبودية طوْعًا وكرْهًا، قاله ابن عباس؛ وبيان هذا قوله: {ولئن سألتهم منْ خلقهم ليقولنَّ الله} [الزخرف: 87].والثالث: أنه خاصّ في حقِّ المؤمنين.قال سعيد بن المسيّب: ما خلقتُ منْ يعبُدني إلا ليعبُدَني.وقال الضحاك، والفراء، وابن قتيبة: هذا خاصّ لأهل طاعته، وهذا اختيار القاضي ابي يعلى فإنه قال: معنى هذا الخصوصُ لا العمومُ، لأن البُله والأطفال والمجانين لا يدخُلون تحت الخطاب وإن كانوا من الإنس، فكذلك الكُفَّار يخرُجون من هذا بدليل قوله: {ولقد ذرأْنا لجهنَّم كثيرًا من الجِنِّ والإنس} [الأعراف: 179]، فمن خُلق للشَّقاء ولجهنَّم، لم يخلق للعبادة.والرابع: إلا ليخضعوا إليَّ ويتذللَّوا.ومعنى العبادة في اللغة: الذُّلُّ والانقياد.وكُلُّ الخلْق خاضعٌ ذليلٌ لقضاء الله عز وجل لا يملك خُروجًا عمّا قضاه اللهُ عز وجل، هذا مذهب جماعة من أهل المعاني.قوله تعالى: {ما أُريدُ منهم من رِزْقٍ} أي: ما أُريدُ أن يرزُقوا أنفسهم {وما أُريدُ أن يُطْعِموني} أي: أن يُطْعِموا أحدًا من خَلْقي، لأنِّي أنا الرَّزّاق.وإنما أسند الإطعام إلى نفسه، لأن الخلق عيالُ الله، ومن أطعمَ عِيالَ أحد فقد أطعمه.وقد جاء في الحديث الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «يقول اللهُ عز وجل يوم القيامة: يا ابن آدم: استطعمتُكَ فلم تُطْعِمْني»، اي: لم تُطْعِم عبدي.فأما {الرَّزّاق} فقرأ الضحاك، وابن محيصن: {الرّازق} بوزن (العالِم).قال الخطابي: هو المتكفِّل بالرِّزق القائمُ على كل نَفْس بما يُقيمها من قُوتها.{والمتينُ} الشديد القُوَّة الذي لا تنقطع قُوَّته ولا يَلحقه في أفعاله مَشقَّة.وقد روى قتيبة عن الكسائي أنه قرأ: {المتينِ} بكسر النون.وكذا قرأ أبو رزين، وقتادة، وأبو العالية، والأعمش.قال الزجاج: {ذو القوَّة المتينِ} أي: ذو الاقتدار الشديد، ومن رفع {المتين} فهو صفة الله عز وجل، ومن خفضه جعله صفة للقُوة، لأن تأنيث القُوَّة كتأنيث المُوعظة، فهو كقوله: {فمن جاءه مَوعِظةٌ من ربِّه} [البقرة: 275].قوله تعالى: {فإنَّ لِلذينَ ظَلموا} يعني مشركي مكة {ذَنوبًا} أي: نصيبًا من العذاب {مِثْلَ ذَنوبِ أصحابهم} الذين أُهلكوا، كقوم نوح وعاد وثمود.قال الفراء: الذَّنوب في كلام العرب: الدَّلْوُ العظيمة، ولكن العرب تذهب بها إلى النَّصيب والحظِّ، قال الشاعر:
والذَّنوب، يُذَكَّر ويؤنَّث.وقال ابن قتيبة، أصل الذَّنوب: الدَّلو العظيمة، وكانوا يَستقون، فيكون لكل واحدٍ ذَنوبٌ، فجُعل {الذَّنوب} مكان (الحظّ والنصيب) قوله تعالى: {فلا يَستعجِلونِ} أي: بالعذاب إن أُخِّروا إلى يوم القيامة، وهو يومهم الذي يوعدون، ويقال: هو يوم بدر. اهـ. .قال الخازن: قوله: {والذاريات ذروًا} يعني الرياح التي تذر التراب {فالحاملات وقرا} يعني السحاب يحمل ثقلًا من الماء {فالجاريات يسرًا} يعني السفن تجري في الماء جريًا سهلًا {فالمقسمات أمرًا} يعني الملائكة يقسمون الأمور بين الخلق على ما أمروا به وقيل: هم أربعة: جبريل صاحب الوحي إلى الأنبياء الأمين عليه وصاحب الغلظة، وميكائيل صاحب الرزق والرحمة، وإسرافيل صاحب الصور واللوح، وعزرائيل صاحب قبض الأرواح.وقيل: هذه الأوصاف الأربعة في الرياح لأنها تنشئ السحاب وتسيره ثم تحمله وتقله ثم تجري به جريًا سهلًا ثم تقسم الأمطار بتصريف السحاب أقسم الله تعالى بهذه الأشياء لشرف ذواتها ولما فيها من الدلالة على عجيب صنعته وقدرته.والمعنى: اقسم بالذاريات بهذه الأشياء، وقيل: فيه مضمر تقديره ورب الذاريات ثم ذكر جواب القسم.{إن ما توعدون} أي من الثواب والعقاب يوم القيامة {لصادق} أي الحق {وإن الدين} أي الحساب والجزاء {لواقع} أي لكائن ثم ابتدأ قسمًا آخر فقال تعالى: {والسماء ذات الحبك} قال ابن عباس: ذات الخلق الحسن المستوي، وقيل: ذات الزينة حبكت بالنجوم وقيل: ذات البنيان المتقن وقيل: ذات الطرائق كحبك الماء إذا ضربته الريح وحبك الرمل ولكنها لا ترى لبعدها من الناس وجواب القسم قوله: {إنكم} يعني يا أهل مكة {لفي قول مختلف} يعني في القرآن وفي محمد صلى الله عليه وسلم يقولون في القرآن سحر وكهانة وأساطير الأولين وفي محمد صلى الله عليه وسلم ساحر وشاعر وكاهن ومجنون وقيل: لفي قول مختلف أي مصدق ومكذب {يؤفك عنه من أفك} أي يصرف عن الإيمان به من صرف حتى يكذبه وهو من حرمه الله الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم وبالقرآن وقيل: معناه أنهم كانوا يتلقون الرجل إذا أراد الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم فيقولون إنه ساحر وشاعر وكاهن ومجنون فيصرفونه عن الإيمان به {قتل الخراصون} أي: الكذابون هم المقتسمون الذين اقتسموا عقاب مكة واقتسموا القول في النبي صلى الله عليه وسلم ليصرفوا الناس عن الإسلام.وقيل: هم الكهنة {الذين هم في غمرة} أي في غفلة وعمى وجهالة {ساهون} أي لاهون غافلون عن أمر الآخرة والسهو الغفلة عن الشيء وذهاب القلب عنه {يسألون أيان يوم الدين} أي يقولون يا محمد متى يوم الجزاء يعني يوم القيامة تكذيبًا واستهزاء قال الله تعالى: {يوم هم} أي يكون هذا الجزاء في يوم هم {على النار يفتنون} أي يدخلون ويعذبون بها وتقول لهم خزنة النار: {ذوقوا فتنتكم} أي عذابكم {هذا الذي كنتم به تستعجلون} أي في الدنيا تكذيبًا به.قوله تعالى: {إن المتقين في جنات وعيون} يعني في خلال الجنات عيون جارية {آخذين ما آتاهم} أي ما أعطاهم {ربهم} أي من الخير والكرامة {إنهم كانوا قبل ذلك محسنين} أي قبل دخولهم الجنة محسنين في الدنيا ثم وصف إحسانهم فقال تعالى: {كانوا قليلًا من الليل ما يهجعون} أي كانوا ينامون قليلًا من الليل ويصلون أكثره.وقال ابن عباس: كانوا قل ليلة تمر بهم إلا صلوا فيها شيئًا إما من أولها أو من أوسطها عن أنس بن مالك في قوله: {كانوا قليلًا من الليل ما يهجعون} قال: كانوا بين المغرب والعشاء أخرجه أبو داود.وقيل: كانوا لا ينامون حتى يصلون العتمة وقيل: قل ليلة أتت عليهم هجعوها كلها، ووقف بعضهم على قوله: {كانوا قليلًا}، أي من الناس ثم ابتدأ {من الليل ما يهجعون} أي لا ينامون بالليل البتة بل يقومون الليل كله في الصلاة والعبادة {وبالأسحار هم يستغفرون} أي ربما مدوا عبادتهم إلى وقت السحر ثم أخذوا في الاستغفار وقيل: معناه يستغفرون من تقصيرهم في العبادة وقيل: يستغفرون من ذلك القدر القليل الذي كانوا ينامونه من الليل وقيل: معناه يصلون بالأسحار لطلب المغفرة (ق) عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ينزل ربنا كل ليلة إلى سماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الأخير فيقول من يدعوني فأستجيب له من يسألني فأعطيه من يستغفرني فأغفر له» ولمسلم قال: «فيقول أنا الملك أنا الملك» وذكر الحديث وفيه «حتى يضيء الفجر» وزاد في رواية «من يقرض غير عديم ولا ظلوم».فصل:هذا الحديث من أحاديث الصفات وفيه مذهبان معروفان:أحدهما: وهو مذهب السلف وغيرهم أنه يمر كما جاء من غير تأويل ولا تعطيل ويترك الكلام فيه وفي أمثاله مع الإيمان به وتنزيه الرب تبارك وتعالى عن صفات الأجسام.المذهب الثاني: وهو قول جماعة من المتكلمين وغيرهم أن الصعود والنزول من صفات الأجسام والله تعالى يتقدس عن ذلك.فعلى هذا يكون معناه نزول الرحمة والألطاف الإلهية وقربها من عباده والإقبال على الداعين بالإجابة واللطف.وتخصيصه بالثلث الأخير من الليلا لأن ذلك وقت التهجد والدعاء وغفلة أكثر الناس عن التعرض لنفحات رحمة الله تعالى وفي ذلك الوقت تكون النية خالصة والرغبة إلى الله تعالى متوفرة فهو مظنة لقبول الإجابة والله تعالى أعلم (ق).عن ابن عباس قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا قام من الليل يتهجد قال: «اللهم لك الحمد أنت قيوم السموات والأرض ومن فيهن ولك الحمد أنت ملك السموات والأرض ومن فيهن ولك الحمد أنت نور السموات والأرض ومن فيهن ولك الحمد أنت الحق ووعدك الحق ولقاؤك الحق وقولك الحق والجنة حق والنار حق والنبيون حق ومحمد حق والساعة حق اللهم لك أسلمت وبك آمنت وعليك توكلت وإليك أنبت وبك خاصمت وإليك حاكمت فاغفر لي ما قدمت وما أخرت وما أسررت وما أعلنت».{وفي أموالهم حق} أي نصيب قيل إنه ما يصلون به رحمًا أو يقرون به ضيفًا أو يحملون به كلًا أو يعينون به محرومًا وليس بالزكاة قاله ابن عباس.وقيل: إنه الزكاة المفروضة {للسائل} أي الذي يسأل الناس ويطلب منهم {والمحروم} قيل هو الذي ليس له في الغنائم سهم ولا يجري عليه من الفيء شيء قال ابن عباس: المحروم الذي ليس له في فيء الإسلام سهم.وقيل: معناه الذي حرم الخير والعطاء، وقيل: المحروم، المتعفف الذي لا يسأل.وقيل: هو صاحب الجائحة الذي أصيب زرعه وثمره أو نسل ماشيته وقيل: هو المحارف المحروم في الرزق والتجارة وقيل: هو المملوك وقيل: هو المكاتب، وأظهر الأقوال، أنه المتعفف لأنه قرنه بالسائل والمتعفف لا يسأل ولا يكاد الناس يعطون من لا يسأل إنما يفطن له متيقظ {وفي الأرض آيات} أي عبر من البحار والجبال والأشجار والثماؤ وأنواع النبات {للموقنين} أي بالله الذي يعرفونه ويستدلون عليه بصنائعه {وفي أنفسكم} أي آيات إذ كنتم نطفة ثم علقة ثم مضغة ثم عظمًا إلى أن تنفخ الروح.وقال ابن عباس: يريد اختلاف الألسنة والصور والألوان والطبائع وقيل: يريد سبيل الغائط والبول يأكل ويشرب من مدخل واحد ويخرج من سبيلين وقيل: يعني تقويم الأدوات السمع والبصر والنطق والعقل إلى غير ذلك من العجائب المودعة في ابن آدم {أفلا تبصرون} يعني كيف خلقكم فتعرفوا قدرته على البعث {وفي السماء رزقكم} قال ابن عباس هو المطر وهو سبب الأرزاق {وما توعدون} يعني من الثواب والعقاب.وقيل: من الخير والشر.وقيل: الجنة والنار ثم أقسم سبحانه وتعالى بنفسه فقال: {فورب السماء والأرض إنه لحق} أي ما ذكر من الرزق وغيره {مثل ما أنكم تنطقون} أي بلا إله إلا الله.وقيل: شبه تحقيق ما أخبر عنه بتحقيق نطق الآدمي ومعناه إنه لحق كما أنك تتكلم.وقيل: إن معناه في صدقه ووجوده كالذي تعرفه ضرورة وقال بعض الحكماء معناه كما أن كل إنسان ينطق بلسان نفسه لا يمكنه أن ينطق بلسان غيره كذلك كل إنسان يأكل من رزق نفسه الذي قسم له لا يقدر أن يأكل رزق غيره.قوله تعالى: {هل أتاك حديث ضيف إبراهيم} يعني هل أتاك يا محمد حديث الذين جاؤوا إبراهيم بالبشرى فاستمع نقصصه عليك وقد تقدم ذكر عددهم وقصتهم في سورة هود {المكرمين} قيل: سماهم مكرمين لأنهم كانوا ملائكة كرامًا عند الله.وقيل: لأنهم كانوا ضيف إبراهيم وهو أكرم الخلق على الله يومئذ وضيف الكريم مكرمون.وقيل: لأن إبراهيم أكرمهم بتعجيل قراهم وخدمته إياهم بنفسه وطلاقة وجهه لهم.وقال ابن عباس: سماهم مكرمين لأنهم كانوا غير مدعوين (ق) عن أبي شريح العدوي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه».{إذ دخلوا عليه فقالوا سلامًا قال سلام قوم منكرون} أي غرباء لا نعرفكم.قال ابن عباس: قال في نفسه هؤلاء قوم لا نعرفهم وقيل: إنما أنكر أمرهم، لأنهم دخلوا بغير استئذان وقيل: أنكر سلامهم في ذلك الزمان وفي تلك الأرض {فراغ} أي عدل ومال {إلى أهله فجاء بعجل سمين} أي جيد وكان مشويًا.قيل: كان عامة مال إبراهيم البقر فجاء بعجل {فقربه إليهم} هذا من آداب المضيف أن يقدم الطعام إلى الضيف ولا يحوجهم السعي إليه فلما لم يأكلوا {قال ألا تأكلون} يعني أنه حثهم على الأكل.وقيل: عرض عليهم الأكل من غير أن يأمرهم {فأوجس} أي فأضمر {منهم خيفة} لأنهم لم يتحرموا بطعامه {قالوا لا تخف وبشروه بغلام عليم} أي يبلغ ويعلم وقيل: عليم أي نبي {فأقبلت امرأته} قيل لم يكن ذلك إقبالًا من مكان إلى مكان بل كانت في البيت فهو كقول القائل أقبل يفعل كذا إذا أخذ فيه {في صرة} أي في صيحة والمعنى أنها أخذت تولول وذلك من عاد النساء إن سمعن شيئًا {فصكت وجهها} قال ابن عباس: لطمت وجهها.وقيل: جمعت أصابعها وضربت جبينها تعجبًا وذلك من عادة النساء أيضًا إذا أنكرن شيئًا {وقالت عجوز عقيم} معناه: أتلد عجوز عقيم وذلك لأن سارة لم تلد قبل ذلك {قالوا كذلك قال ربك} أي كما قلنا لك قال ربك إنك ستلدين غلامًا {إنه هو الحكيم العليم} ثم إن إبراهيم لما علم حالهم وأنهم من الملائكة {قال فما خطبكم} أي فما شأنكم وما طلبكم {أيها المرسلون قالوا إنا أرسلنا إلى قوم مجرمين} يعني قوم لوط {لنرسل عليهم حجارة من طين} قيل هو الآجر {مسومة} أي معلمة قيل على كل حجر اسم من يهلك به.وقيل: معلمه بعلامة تدل على أنها ليست من حجارة الدنيا {عند ربك للمسرفين} قال ابن عباس يعني المشركين لأن الشرك أسرف الذنوب وأعظمها.{فأخرجنا من كان فيها} أي في قرى قوم لوط {من المؤمنين فما وجدنا فيها غير بيت} أي أهل بيت {من المسلمين} يعني لوطًا وابنتيه وصفهم الله تعالى بالإيمان والإسلام جميعًا لأنه ما من مؤمن إلا وهو مسلم.
|